لكن الملايين تركوا وظائفهم طوعاً حين بدأت الأوضاع الاقتصاديّة الطبيعيّة تعود إلى مجاريها، وسمّيت هذه الظاهرة "موجة الاستقالات الكبرى".
اقتُرحت نظريات مختلفة لتفسير هذه الظاهرة، إلّا أنّ السؤال المهمّ للمستثمرين على المدى الطويل هو سواء يؤشر ذلك إلى تغيير جوهري في المشهد الاقتصادي. يعتقد البعض أنّه مؤشراً لذلك، ومنهم الكاتب في مجلة The Atlantic، ديريك تومبسون،[1] الذي وصف ظاهرة الاستقالات كـ"لحظة انتقاليّة في التاريخ الأمريكي".
ومع توافر بيانات إضافيّة حالياً، يمكننا تحليل هذا الاتجاه لفهم انعكاساته على المستثمرين.
ماذا يحدث؟
أظهرت بيانات من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) أنّه بينما يُعدّ هذا الاتجاه عالميّاً،[2] فهو أكثر وضوحاً في الولايات المتحدة حيث سوق العمل أكثر مرونة ونظام الدعم الاجتماعي محدوداً أكثر من أوروبا الغربية. لذلك قد تكون بيانات الولايات المتحدة أكثر دقة.
ترك ما يعادل 3,95 مليون شخص أمريكي وظائفهم شهريا في 2021،[3] وهو أكبر رقم مُسجّل للآن. بدأ معدّل الاستقالة بالارتفاع منذ بداية 2021 ووصلت ذروته إلى 5% في أغسطس.[4] وكان قطاع السلع والخدمات غير الضرورية (الترفيه وتجارة التجزئة والضيافة) من أكثر القطاعات تأثراً.
المصدر: Bloomberg
وكما هو متوقّع، لُمس هذا الاتجاه في سوق العمل. ارتفع عدد فرص العمل في النصف الثاني من 2021[5] بنسبة 40% مقارنةً بما قبل الجائحة (من سبعة ملايين إلى 10 مليون). وتعزّز الموقف التفاوضي للفئة العاملة كما بيّن ارتفاع النشاط العمّالي عبر القطاعات في 2021.[6]
في الأزمات الاقتصادية الثلاثة الماضية، لم تشهد القوّة العاملة الأمريكيّة (عدد الأفراد الذين يعملون أو يبحثون عن عمل) أيّ انكماش ملحوظ.[7] وعلى نحو مفاجئ، تخطت الاستقالات الشهرية في 2021 بكثير متوسّط 3 مليون شهريّاً.
المصدر: CaixaBank Research, based on data from BLS (via Refinitiv)
لماذا يحدث هذا؟
تنجم الاتجاهات الاقتصادية الكبرى عادةً عن عوامل كثيرة، لكن ما هي الأكثر تأثيراً وما هي المرجحة أن تستمر حتّى بعد العودة إلى الظروف السابقة؟
التفسير السائد هو الاستياء المرتبط بمكان العمل، بخاصة في الوظائف المتدنية الأجور في قطاع الضيافة.[8] ولكن هذا ليس سوى مشكلة أسواق يُمكن حلّها بزيادة الأجور لتحقيق توازن جديد بين العرض والطلب.
ارتفعت الاستقالات بين الموظفين في منتصف مسيرتهم المهنيّة (30 إلى 45 عام) بنسبة 20% بين 2020 و2021،[9] ما يعني أنّ ضغط العمل وتزايد مسؤوليّات رعاية الأطفال قد يكونا عاملين مساهمين في ذلك. ومع رفع القيود على المدارس، يُتوقّع أن ينحسر هذا العامل.
ربما خفض مجموع تعويضات البطالة وبرامج التنشيط الطارئة وقوة سوق العقارات والأسهم ضغط العودة إلى العمل لمجموعات كثيرة (للأثرياء والأقلّ يسراً على السواء). في ضوء طبيعة هذه العوامل المؤقتة و/أو الدورية، يُمستبعد أن يستمر تأثيرها.
التراجع الطبيعي في القوّة العاملة نتيجة انخفاض معدلات الولادة وبدء انتقال القوّة العاملة الأكبر سناً من جيل طفرة المواليد إلى مرحلة التقاعد محرّك أساسي غير مرتبط بالجائحة. ووجدت دراسة للاحتياطي الفدرالي في سانت لويس St. Louis Fed أنّ عدد الموظفين من جيل طفرة المواليد الذين تقاعدوا في النصف الأول من 2021 كان 2,4 مليون أكثر من المتوقع،[10] ما يعني أنّ الجائحة ربما سرّعت اتجاهاً قد بدأ سابقا.
ماذا يعني ذلك للمستثمرين؟
مع خروج العالم من وطأة الجائحة، ارتفع التضخم بدرجة كبيرة في الولايات المتحدة خلال الأشهر الأخيرة. ووفق وزارة العمل الأمريكيّة،[11] ارتفعت أسعار المستهلكين بنسبة 7,5% لتصل أعلى مستوياتها منذ 40 عاما.
في حين تبقى الأسباب الدقيقة للتضخم موضع نقاش، سيزيد تقلّص القوّة العاملة من الضغط المتصاعد على التكاليف وبالتالي على الأسعار، ما سيخفض القوة الشرائية للدولار الأمريكي. وبناءً على بيانات سابقة، يتوافق ارتفاع الاستقالات إلى أعلى من 3% مع نموّ الأجور بنسبة 5%.
Notes: Quarterly data from Q1 2001 to Q4 2019 (pre-pandemic). The red dot is the wage growth estimate based on the average quit rate as of the end of 2021.
المصدر: CaixaBank Research, based on data from BLS and the Atlanta Fed (via Refinitiv)
في غضون ذلك، يُتوقع أن يزيد الاحتياطي الفدرالي الأمريكي أسعار الفائدة إلى 1,75% في هذا العام فقط،[12] ما سيزيد تكاليف الاقتراض ويكبح التعافي الحديث للاقتصاد الأمريكي.
باختصار، ومع تعدّد العوامل، كانت الأسس التي تقود التغيير—التغييرات الديمغرافية في القوى العاملة—معروفة لسنوات وكان ينبغي تسعيرها من قبل الأسواق. ويُرجح أن تؤثر المخاطر والفرص الناجمة عن الجائحة بشكلٍ أساسي على التجار والمضاربين بدلا من المستثمرين على المدى الطويل.
إذا كنتم تبحثون عن التوجيه أو الاطمئنان أو الأفكار حول المشهد الاستثماري، تواصلوا مع أحد مستشارينا هنا.
[1] The Atlantic - https://www.theatlantic.com/ideas/archive/2021/10/great-resignation-accelerating/620382/
[2] OECD - https://www.weforum.org/agenda/2021/09/oecd-employment-outlook-covid-19/
[3] جمعية إدارة الموارد البشرية (SHRM) - https://www.shrm.org/resourcesandtools/hr-topics/talent-acquisition/pages/interactive-quits-level-by-year.aspx
[4] Gusto - https://gusto.com/company-news/a-real-time-look-at-the-great-resignation-december-2021#:~:text=Since%20that%20point%2C%20the%20quits,was%203.1%25%20in%20December%202020.
[5] Statista - https://www.statista.com/statistics/217943/monthly-job-openings-in-the-united-states/
[6] Washington Post - https://www.washingtonpost.com/business/2021/10/17/strikes-great-resignation/?itid=lk_inline_manual_9
[7] Caixa Bank - https://www.caixabankresearch.com/en/economics-markets/labour-market-demographics/great-resignation-paradigm-shift-us-labour-market
[8] مكتب الإحصائيات العمالية Bureau of Labor Statistics - https://www.bls.gov/news.release/pdf/jolts.pdf
[9] Harvard Business Review - https://hbr.org/2021/09/who-is-driving-the-great-resignation
[10] Federal Reserve Bank of St. Louis - https://research.stlouisfed.org/publications/economic-synopses/2021/10/15/the-covid-retirement-boom
[11] وزارة العمل الأمريكية - https://www.bls.gov/news.release/pdf/cpi.pdf
[12] Reuters Factbox - https://www.reuters.com/business/finance/what-global-banks-forecast-fed-rate-hikes-2022-2022-02-11/