خلفيّة محفوفة بالتحديات
رغم استمرار كثيرين بالتأمّل في العودة إلى أسعار الفائدة المنخفضة للغاية، إلّا أنّ هذا الأمل يبدو بعيد المنال بشكلٍ أكبر مع استمرار التضخّم عبر الاقتصادات المتقدّمة. منذ نهاية العام الماضي، تكهّنت الكثير من المؤسسات الرائدة ببدء عصرٍ جديد من التضخّم المرتفع وبالتالي أسعار فائدة أعلى.
يعني ارتفاع تكاليف الاقتراض على مستوى أساسي جدّاً أنّ الشركات بحاجة إلى تحقيق الأرباح من أجل الاستمرار، فضلاً عن توفير عائد جيّد لمساهميها. وبافتراض ثبات العوامل الأخرى، يعني هذا عوائد أقلّ للمساهمين بشكلٍ عام.
ما هي العوامل المعاكسة المُحتملة؟
تواجه الحكومات مستويات مرتفعة من الديون ومن غير المرجّح أن تتمكّن من دعم اقتصاداتها عبر الإنفاق التحفيزي، كما كان شائعاً في بداية جائحة كورونا ومباشرةً بعدها.
لذلك، في ظلّ ارتفاع التكاليف كالمواد والعمالة ورأس المال، ومن دون دعم حكومي سخي، ستبرز الحاجة إلى عنصر آخر لتجنّب عصر ركود.
دروس من التسعينات
تشكّل تسعينات القرن الماضي نقطةً مرجعيةً مثيرة للاهتمام لمعضلتنا الحاليّة. وفي حين اعتُبرت لاحقاً بأنّها العصر الذهبي للاقتصاد الأمريكي، استمرّ "ارتفاع" كلّ من التضخّم وأسعار الفائدة طوال العقد، بحيث بلغ المتوسّط 3% و5% تباعاً، ما يشبه المستويات الحاليّة.
ما الذي كان خلف الطفرة إذاً؟ هناك إجماع عام على أنّ التحسّن في الإنتاجيّة، بفضل الاستثمار في التكنولوجيا وتحديداً من القطاع الخاص، لعب دوراً كبيراً في دفع النموّ الاقتصادي.[1]
إنّ التوسع في اعتماد أجهزة الكمبيوتر (PCs) والبرمجيّات (Windows وMicrosoft Office)، بالإضافة إلى النموّ المُبكر للإنترنت، أتاح للشركات فرصة استخدام قوتها العاملة بفعاليّة أكبر، وبالتالي تحسين صافي الأرباح.[2]
كان من الصعب التنبّؤ بذلك في بداية العقد عندما كان النموّ بطيئاً وبدت التوقعات الاقتصاديّة غير واعدة. فهل يُمكن أن نشهد على قصة مماثلة في النصف الثاني من العقد الحالي؟
عاملا دفع مُحتملان
هناك بصيصا أملٍ فيما يتعلّق بالتوقعات حول الإنتاجيّة قد يساهمان في تكرار طفرة التسعينات.
الأوّل هو نوعاً ما موضوع نقاشٍ واسع بالفعل: قد يكون لانتشار الأتمتة (في الأعمال اليدويّة) والذكاء الاصطناعي المتزايد (في الأعمال الإدراكيّة) تأثير مماثل أو حتى أكبر على قدرة الشركات في قطاعات كالرعاية الصحيّة على تحقيق إنتاجيّة أعلى بتكاليف أقلّ، ما يحيّد بالتالي آثار التضخّم واحتمال ارتفاع العبء الضريبي.
مع التركيز بشكلٍ خاص على دور الذكاء الاصطناعي التوليدي، نرى قدرته على إحداث ثورة في القطاعات عبر أتمتة العمليّات المُعقدة وإنشاء محتوى جديد وتعزيز عمليّة اتخاذ القرارات. يمكن أن يساعد الذكاء الاصطناعي التوليدي في المهام الإبداعيّة كصناعة المحتوى والتصميم وحتى التخطيط الإستراتيجي، ما يتيح للشركات أدوات للابتكار بوتيرة لم يكن من الممكن تصوّرها سابقاً. عبر الاستفادة من الذكاء الاصطناعي التوليدي، لا يمكن للشركات تبسيط العمليات فحسب، بل أيضاً فتح مجالات جديدة للنموّ والكفاءة، ما يجعله ركناً أساسيّاً للطفرة الإنتاجيّة القادمة.
لا يتمّ برأينا النقاش حول الثاني بشكلٍ أقل فحسب، بل قُدِّم أيضاً بشكلٍ خاطئ على أنّه تحدي بدلاً من فرصة: وهو "شيخوخة السكان". الرأي السائد هو أنّ الأفراد الأكبر سناً في المجتمع سيؤثرون بشكلٍ سلبي على النمو الاقتصادي، وأنّ زيادة متوسّط العمر ستزيد المشكلة سوءاً.
مع ذلك، هذا يعتمد على الافتراض بأنّ العمّال الأكبر سنّاً سيتركون سوق العمل عند سنّ التقاعد القياسي ويتوقّفون عن جميع الأنشطة الاقتصاديّة. أمّا الحقيقة التي لم يُعترف بها إلّا مؤخراً، فهي أنّ الأفراد الأكبر سنّاً في المجتمع ليسوا فقط على استعداد لمواصلة العمل ولكنّهم أيضاً في موقعٍ فريد يسمح لهم بالمساهمة في اقتصادٍ قائم على المعرفة.
لا نرى بالتالي أزمة شيخوخة إنّما ارتفاع غير متوقّع بأمد الحياة.
المصدر: الاحتياطي الفدرالي في ريتشموند
تزداد نسبة مشاركة العمّال الأكبر سنّاً في القوة العاملة بالفعل، ويمكن القول إنّ التقدّم في التكنولوجيا، بالأخصّ الذكاء الاصطناعي، سيجعل الحكمة الناجمة عن الخبرة أكثر قيمة، حيث يتمّ استبدال المهارات الميكانيكيّة ببدائل آليّة أسرع.
الخلاصة
عندما تفشل التوقعات، غالباً ما ينجم ذلك عن الافتراضات المستقبليّة التي تستند إلى الماضي. في سبعينات القرن الماضي، كانت الادّعاءات بأنّنا بلغنا "ذروة النفط" تستند إلى الرأي الخاطئ بأنّه لن يتمّ العثور على احتياطات كبيرة إضافيّة وأنّ عمليّات الاستخراج لن تستمرّ في التطوّر.
هناك أيضاً فرصاً وافرة في البيئة الاقتصاديّة العالميّة قد تكون مخفيّة عن الكثيرين. وبالنظر إلى تاريخ الابتكار البشري، يبدو أنّ التفاؤل هو الخيار العقلاني.